بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اتبع السيئة الحسنة تمحها
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن مما نعلمه يقينًا سعة رحمة رب العالمين ومحبته - جل
وعلا - للعفو والمغفرة، وأنَّ مِنْ أسمائه - سبحانه -: الغفور، والغفار،
والغافر، وأن أولى الناس بهذا العفو والمغفرة من تعرض لأسبابها، ولعل من
أهم أسباب هذه المغفرة:
فعل الحسنة بعد السيئة:
إنَّ الخطأ والوقوع في بعض المعاصي لا يكاد يَسلم منه
أحد، وإنْ كان الناس يتفاوتون بين مقل ومستكثر، وقد قال النبي -- صلى
الله عليه وسلم -: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُخْطِئُوا
لَجَاءَ اللَّهُ - عز وجل - بِقَوْمٍ يُخْطِئُونَ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَ
اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ)) [رواه أحمد، وصححه الألباني].
وقد جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يخبره أنه
قد أصاب من امرأة قُبْلة؛ فأنزل الله قوله -تعالى-: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ
طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) [هود: 114].
إنها مِنة عظيمة مِنْ الله على هذه الأمة أن جعل حسنات
بنيها تكفر سيئاتهم: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا
وَهُمْ يَعْلَمُونَ . أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ
وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [آل عمران: 135ـ136]، وقد أكد الرسول -
صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى حين قال لمعاذ بن جبل -رضي الله عنه-:
((اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ
تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ)) [رواه أحمد والترمذي،
وحسنه الألباني].
إن الذنوب -يا أيها الأحبة الكرام- توبق العبد وتهلكه،
والنجاة منها التعرض لأسباب المغفرة...ومنها: فعل الحسنة بعد السيئة، وقد
بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى وجلاه ووضحه حين قال:
((إِنَّ مَثَلَ الَّذِي يَعْمَلُ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ يَعْمَلُ
الْحَسَنَاتِ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَتْ عَلَيْهِ دِرْعٌ ضَيِّقَةٌ قَدْ
خَنَقَتْهُ ثُمَّ عَمِلَ حَسَنَةً فَانْفَكَّتْ حَلْقَةٌ ثُمَّ عَمِلَ
حَسَنَةً أُخْرَى فَانْفَكَّتْ حَلْقَةٌ أُخْرَى حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى
الأَرْضِ)) [رواه أحمد والطبراني، وصححه الألباني].
وفي الصحيحين عن أنس -رضي الله عنه- قال: ((كُنْتُ
عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، قَالَ: وَلَمْ
يَسْأَلْهُ عَنْهُ، قَالَ: وَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَصَلَّى مَعَ
النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صلى الله
عليه وسلم - الصَّلاَةَ قَامَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْ فِيَّ كِتَابَ اللَّهِ، قَالَ:
(أَلَيْسَ قَدْ صَلَّيْتَ مَعَنَا)، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: (فَإِنَّ
اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ))، أَوْ قَالَ: (حَدَّكَ).
كما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - قوله: ((إِنَّ
رَجُلاً أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ: رَبِّ إِنِّي أَذْنَبْتُ ذَنْبًا -أَوْ
قَالَ عَمِلْتُ عَمَلاً ذَنْبًا- فَاغْفِرْهُ فَقَالَ: - عز وجل -: عَبْدِي
عَمِلَ ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ
بِهِ قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ عَمِلَ ذَنْبًا آخَرَ أَوْ أَذْنَبَ
ذَنْبًا آخَرَ فَقَالَ: رَبِّ إِنِّي عَمِلْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ،
فَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا
يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ عَمِلَ
ذَنْبًا آخَرَ أَوْ أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ. فَقَالَ: رَبِّ إِنِّي
عَمِلْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ، فَقَالَ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا
يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي فَلْيَعْمَلْ
مَا شَاءَ)) [متفق عليه].
لكن انتبه... فهناك فرق كبير بين هذا الذي أخبر عنه
النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين المُصر، فهذا الرجل يجاهد نفسه على
ترك المعاصي؛ فإذا غلبته نفسه ووقع في المعصية ندم واستغفر، وهكذا... فهو
دائم المجاهدة لنفسه وهواه، والآخر المصر لا تبدو منه مجاهدة ولا يستغفر
ولا يندم، فالأول موعود بالمغفرة طالما كان على هذا الحال من المجاهدة
والتوبة والاستغفار والندم.
لا تيأس من رحمة الله:
فبعض الناس يقول: "إنني أسوأ من أن يغفر الله لي... "؛
فيترك التوبة والندم، ويستمر على المعاصي والفجور بزعم أنه لا يُغفر له!
وهذا اليأس والقنوط من رحمة رب العالمين هو الذي يود الشيطان لو ظفر به من
بني آدم.
أتدري أيها الحبيب أن الشيطان قد بكى حين نزل قوله
-تعالى-: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا
وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
ألا تعلم أن اليأس في ديننا منهي عنه؟! (وَلا تَيْأَسُوا
مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلا القَوْمُ
الكَافِرُونَ) [يوسف: 87].
أتعلم أن الله غفر لبغي من بغايا بني إسرائيل لما سقت كلبًا قد اشتد عطشه؟!
أتدري أيها الحبيب أن الشيطان يشتد حزنه حين يراك تائبًا نادمًا؟!
أتعلم أن الله من محبته للمغفرة لم يعدك فقط مغفرة
ذنوبك، إنما وعدك أن يبدلها حسنات: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ
إِلَهًا آَخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا
بِالحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا .
يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً
. إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ
يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً
رَحِيماً) [الفرقان: 68ـ70]؟!
نصح علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- من سأله عمن وقع في
ذنب؛ فقال: "يستغفر الله ويتوب". قال: "فإن عاد"؟ قال: "يتوب". قال:
"حتى متى"؟ قال: "حتى يكون الشيطان هو المحسور".
وهذه وصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - لي ولك وللأمة كلها:
- (إذا أسأتَ فأحسنْ) [رواه البيهقي والحاكم وابن حبان، وحسنه الألباني].
- (إِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً فأَتْبِعْهَا حَسَنَةً تَمْحُهَا) [رواه أحمد، وصححه الألباني].