مقال جميل للشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله - حبيت أنقلكم ياه من كتابه الرائع " صور وخواطر " عنوانه (( مجانين )) ..وهو طويل شوي لكن أغلبه قصص ، بتمنى يعجبكم .
إذا رأيتم رجلاً يمشي في الطريق منفوش الشعر ، شارد النظر ، قد لبس معطفه على القفا ، ومشى على غير هدى ... قلتم إنه ( مجنون ) وقد يكون (مجنوناً ) ولكنه قد يكون فيلسوفاً ... أو شاعراً ... أو رياضياً ...!
وإذا سمعتم أن رجلاً لا يفرق بين السروايل والقميص ، ولا بين الجمعة والخميس ، قلتم إنه ( مجنون ) ... ولكن " أناتول فرانس " - والعهدة على الراوي جاك جان روسو - دُعي يوماً إلى وليمة يوم الأحد ، فذهب يوم السبت ولبث ينتظر متعجباً من تأخر الغداء ، ولبثت ربَّة الدار تنظر متعجبة من هذه الزيارة المفاجئة ، ثم لم يرض أن يصدق أنه يوم السبت ... فهل كان " أناتول " نابغة قومه في البلاغة وباقعة العصر .. مجنوناً ؟!
وإذا شاهدتم رجلاً يعتزل في كوخ ، أو ينفرد في غار ، ولا يقبل على الدنيا ، ولا يكلم الناس قلتم إنه مجنون ولكن " الإمام الغزالي " عاف الدنيا وقد اجتمعت له ، والمجد وقدم أقبل عليه ، والرياسة وقد أتته منقادة تسعى له .. وحبس نفسه في أصل منارة الجامع الأموي في دمشق فهل كان " الغزالي " حجة الإسلام وعلم الأعلام .. مجنوناً ؟!
وإذا بلغكم أن إنساناً نسي اسمه قلتم إنه ( مجنون ) ، ولكن " الجاحظ" نسي كنيته .. وطفق يسأل عنها حتى جاءه ابن حلال بالبشارة بلقياها ، فقال له أنت أبو عثمان ! فهل كان " الجاحظ " عبقري الأدب ، ولسان العرب .. مجنوناً ؟!
ونيوتن .. وقد كانت في داره قطة كلما أغلق عليه بابه وقعد إلى كتبه ومباحثه ، أقبلت تخرمش الباب وتخشخش بأظفارها فتشغله عن عمله حتى يقوم فيفتح لها ، فلما طال عليه الأمر كدَّ ذهنه وأطال بحثه ، فاهتدى إلى المخلص ... ففتح في أسفل الباب فتحة تمر منها فاستراح بذلك من شرها .... ثم ولد لها ثلاث قُطّيطات ففتح لكل واحدة منها فتحة ..!! لم يستطع هذا العقل الكبير الذي وسع قانون الجاذبية أن يتسع لحقيقة صغيرة : هي أن الفتحة تكفي القطة الأم وأولادها !
وأمبير ... وقد كانت تعرض له مسائل في الطريق ، فلا يجد قلماً لها وورقاً ، فحمل معه (حوَّاراً ) فكلما عرضت له مسألة ، ورأى جداراً أسود ، وقف فخط عليه .. فرأى مرة عربة سوداء واقفة فجعل يكتب عليها أرقامه ورموزه ، واستغرق فيها حتى سارت العربة ، فجعل يعدو خلفها وحوَّاره في يده وهو لا يدري ما يصنع !
و" هنري بوانكاريه "... وقد دعا قوماً إلى وليمة في داره ، وضرب لها الساعة السابعة موعداً ، فلما حل الموعد وجاء القوم كان مشغولاً ... فدعوه فلم يسمع وألحّوا عليه فلم ينتبه ، وكان يعرفون شذوذه فأكلوا وانصرفوا ... وقام بعد ساعتين فأمَّ غرفة المائدة ، فرأى الصحون الفارغة والملاعق المستعملة وبقايا الطعام فجعل يفكر : هل أكلَ ، أم هو لم يأكل ؟؟ ثم غلب على ظنه أنه قد أكل ، فعاد إلى عمله !
وأمر الله أفندي .. العالم التركي المشهور صاحب المَعْلَمة التركية ( أي دائرة المعارف) ، وقد كان يركب في البحر كل يوم ما بين داره في ( إسكدار) وعمله في ( إسطامبول) ، فركب يوماً وكان إلى جنبه موظف كبير في السفارة البريطانية ، وقد كان في جيبه فستق حلبي ،
وكان " أمر الله أفندي " مشغول الفكر فجال بيده وهو لا يشعر فسقطت في جيب البريطاني ، ووقعت على الفستق فأخرج منه فأكل ! .. وظن الرجل أنه مزاح فسكت ولكن الشيخ عاد وأوغل في الأكل حتى كاد يستنفد الفستق كله .. وكان الفُلْك (المركب ) مزدحماً ما فيه مفر للبريطاني من هذه الورطة ، فأحب أن يتلطف بالشيخ حتى يكف ، فسأله : كيف وجدت الفستق ؟
قال : ((عال! )) وعاد إلى تفكيره وأكله .. فقال له : ولكن ليس في جوار الدار مثله أشتريه للأولاد ، وإذا دخلت عليهم من غير فستق بكوا ... قال الشيخ : ((عجيب !)) وعاد إلى الأكل والتفكير ، فقال له : أفلا تتكرم بإبقاء شيء لهم ؟ قال : (( بلى ، بكل امتنان )) ، وأخرج طائفة من الفستق فدفعها إلى الانكليزي وأكل الباقي ! ..
وقد وُلِّي وزارة المعارف وأعطي عربة ، فكان كلما بلغت به العربة المنزل ، وفتح له الباب السائق ، أخرج كيسه وسأله : كم تريد ؟ ..فيقول له : يا سيدي هذه العربة لمعاليك ، فيتذكر ويقول : طيب ..
وقد سألته امرأة مرة ، وكان يمشي أمام داره : أين دار وزير المعارف يا سيدي ؟. فقال لها : ومن هو وزير المعارف الآن ؟!
أفكان هولاء ، وفيهم كل عبقري علم ، وكل نابغة إمام ...
أكانوا كلهم مجانين ؟
أما في رأيي العامة ، فنعم !
ذلك لأن القافلة تمشي ، فمن سايرها عدَّه أهلها عاقلاً ، ومن تقدم عنها يسلك طريقاً جديداً قد يكون أقرب وآمن ، عدُّوه مجنوناً !..
إن العبقري شغل بالعلم فكره كله ، فلم يبق منه شيء لفهم الحياة ، فصار عند أهلها مجنوناً ..